رائدة الفن مريم الصالح أول ممثلة كويتية

يعتبر الفن في نظر الكثيرين شعلة النار المقدسة التي تجتذب إليها مئات الفراشات الملوّنة كل يوم ، فمنهن من يدنو من النار فيزهو وتلتمع ألوانه ،ومنهن من يدنو  فيحترق ،إلا أن أحدا لم يتوقف يوماً ليسأل من أشعل هذه النار التّي تغوي ليل نهار ؟

إن من أشعلها هم  جيلٌ من الرواد حملوا على عاتقهم صكَّ الأحجار لإطلاق الشرارة الأولى ومن هؤلاء الرواد الأوائل الذين أشعلوا شرارة فن التمثيل في دولة الكويت كانت “مريم الصالح ” التي إلتمعت ألوانها حتى صارت تلقب برائدة الفن الخليجي.

مريم الصالح في بدايات مع المسرح الكويتي
مريم الصالح في بدايات مع المسرح الكويتي

بدايات مريم الصالح

 

مع اللحظات الأولى من مولدها عام 1946 أهلت  “مريم الصالح” إلى الدنيا في منطقة شرق الكويت لتصبح عضواً في أسرة من خمسة أشقاء ووالدها ووالدتها، وهناك عاشت طفولة هانئة إرتادت فيها المدرسة للتعلم، ودور السينما لمشاهدة الأفلام السينمائية التي تركت أثراً كبيراً على شخصيتها وهي لا تزال طفلة حينئذٍ مما كان يدفعها إلى صعود جدران البيت بعد عودتها وتقمص شخصيات هذه الأفلام في محاولة مبكّرة منها لإطلاق “جنيّ” التمثيل الذي يسكنها .

في الثامنة من عمرها أتيحت لها أول فرصة لتحويل هذا الشغف بالتمثيل  مع مجموعة من زملاء مدرسة “الشرقية الابتدائية”  وأمام جمهور حقيقي من الأمهات والمعلمات إلى عمل فني مدرسي، إذ قامت بأداء دور الطفلة اليتيمة “سميرة” في المسرحية المدرسية “ملح الطعام ” و التي مكّنتها لأول مرة من تذوق طعم خشبة المسرح ومواجهة المتفرجين .

توالت تجارب “مريم الصالح”  في المسرح المدرسي حيث شاركت في مسرحيات مثل “الطاعة ” 1957 م ،كما بدأت رحلتها مع الجوائز حين قامت بتجسيد شخصية “ابن نسيبة ” في مسرحية “صقر قريش ” 1961م حيث حصلت بفضل هذا الدور على جائزة الميدالية الذهبية لأحسن دور في المسرحية .

 

 

طموح مريم الصالح في مواجهة مع التقاليد

 

لم تكن “مريم الصالح”  قد أتمت تذوق طعم النجاح وبلورة موهبتها على يد إخصائي المسرح المدرسي الذين وفّرتهم دولة الكويت للارتقاء بفن المسرح حين تآمرت عليها الظروف الاجتماعية فأجبرتها على ترك دراستها و القبول بوظيفة في وزارة الصحة إلا أن اهتمامها بمتابعة النشاط الفني في محيط الوطن العربي لم يتوقف يوماً وكانت تتخذ من زميلاتها في العمل جمهوراً مؤقتاً تعرض عليهن المشاهد التي تميزت فيها نجمات هذا الوقت من الفنانات العربيات أمثال “أمينة رزق” و”سناء جميل” و”سميحة أيوب” وغيرهن.

 

مريم الصالح أول فتاة كويتية تحترف مهنة التمثيل

 

في أثناء ترقبها لمَخرجٍ تعودُ من خلاله “الصالح” لحياتها الحقيقية على خشبة المسرح استطاعت التواصل مع الفنان “محمد النشميّ” الذي كان مسؤولا آنذاك عن “مؤسسة المسرح والفنون” التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ،و الذي أخبرها أن هناك فرقة بقيادة عملاق المسرح المصري “زكي طليمات ”  تبحث عن ممثلين وممثلات ،إلا أن العادات و التقاليد كادت أن تحول بين “مريم الصالح”  و مستقبلها الفنيّ مرة أخرى ،إذ رفضت والدتها في بداية الأمر أن تلتحق إبنتها الشابة بفرقة تمثيل تعتلي المسرح فيطالعها الجميع ومع إصرار  “الصالح ” وافقت أمها على أن تذهب برفقة أخويها وتحت مراقبتهما !!

كان مشهد لقائها بالفنان “زكي طليمات” مربكاً ومفاجئاً حيث استقبلها في قاعة مكتظة بأكثر من خمسين شاباً وكانت “مريم” الفتاة الوحيدة بزيها التقليدي العباءة والبوشية ، مما جعل عيون الجميع تنصب عليها حتى أنها تعثرت وكادت أن تسقط من هول الموقف، إلا أن “طليمات” أدرك معاناتها فقام باختبارها في قاعة جانبية فقامت بأداء مشاهد من مسرحية “صقر قريش” وما هي إلا دقائق قليلة من الأداء المبهر حتى يخرج الفنان زكي طليمات ليعلن للجميع عن تعيين أول فتاة كويتية تحترف مهنة التمثيل في أول فرقة مسرحية كويتية أُطلق عليها «فرقة المسرح العربي».

 

 

توهج وإبداع في ساحة الفن الكويتي

 

منذ ذلك الحين لم يتوقف قطار الإبداع ولم يخبو وهج التميز في حياة “مريم الصالح ” الفنية فقد أسهمت ليس فقط في مجال الأداء المسرحي الكويتي وإنما امتد اسهامها إلى مجال الأعمال الدرامية الإذاعية تمثيلاً وإخراجاً والأعمال الدرامية التليفزيونية بالإضافة إلى جهودها في كتابة النصوص المسرحية .

ففي مجال  العمل المسرحي شاركت مريم الصالح في أكثر من خمسة عشر مسرحية منها : “صقر قريش” و “ابن جلا” و “المنقذة” و “مضحك الخليفة” و “كازينو أم عنبر” و “انتخبوني” و “حرامي آخر موديل” و”الليلة يوصل محقان” و “ضاع الديك” و”يكفيك شرها” و “جنون البشر”.

وفي مجال الدراما التلفزيونية قدمت نحو ثلاثة وخمسين عملاً درامياً ناجحاً رصدت فيها التغيرات المجتمعية لدولة الكويت وقامت بتجسيد شخصية الأم بمنتهى الصدق فظلت عالقة في أذهان الجميع مثل بأعمال مثل : “مذكرات بوعليوي” و “محكمة الفريج” و “الحدباء” و “إنهم يكرهون الحب” و”الطابق الثالث” و “الغوص” و “الزير سالم” و “الرحيل” و “بيت بلا أبواب” و “عندما تشتعل الثلوج” و “ديوان السبيل” و “ثمن عمري” و “مصنع الرجال” و “لعبة كبار” و “الأرجوحة” و “سوالف حريم” و “إن فات الأوان” وغيرها.

ومن الأعمال الإذاعية التي شاركت فيها نذكر: “قلب أم” و “نافذة على التاريخ” و “فارس مع النفاذ” وقد ساهم عملها كمخرجة في الإذاعة الكويتية في تطوير و صبغ العمل في هذه المنصة الإعلامية بشكل فني ساعد في وصولها إلى كل بيت داخل الكويت .

كما لم يخلو مجال الكتابة الأدبية من اسم “مريم الصالح” حيث قدمت للمسرح نصوصاً أدبية منها  مسرحية “جنون البشر” عام 1997.

 

الممثلة الكويتية مريم الصالح في أحد أدوارها
الممثلة الكويتية مريم الصالح في أحد أدوارها

 

مثابرة مريم الصالح في طلب العلم والتحصيل

 

لم تستسلم “مريم الصالح” للظروف الاجتماعية التي أجبرتها على ترك الدراسة في بواكير حياتها حيث عادت لتستكمل جهدها في التخصصات التي أحبتها وعملت بها ، فحصلت الصالح على دبلوم معهد الدراسات المسرحية عام 1968، وبكالوريوس في «المعهد العالي للفنون المسرحية» قسم التمثيل والإخراج عام 1979، كما حصلت على الماجستير في الإخراج من جامعة بريستول البريطانية .

 

 

دورها الرائد في الفن المسرحي الكويتي

 

حازت الفنانة “مريم الصالح” منذ خطواتها الأولى على اهتمام ومتابعة النقاد الفنيين وحملت تعليقاتهم الكثير من التقدير لدورها الرائد في الفن المسرحي فيقول  المحرر الفني لجريدة الرسالة الكويتية في أول مقابلة معها عام 1962  “أما مريم الصالح فقد تخطت جميع الصعوبات التي إعترضتها في سبيل عملها في المسرح، فهي  لا تهتم بكلام الناس وتعتبر التمثيل فناً راقياً يمكن أن يلعب دوراً هاماً في المساهمة في توجيه وتثقيف المواطنين ،كما أطلق عليها عميد معهد المسرح الأسبق “سعيد حطاب” مع  زملائها علي المفيدي، أحمد مساعد، أمين الحاج وكنعان حمد” لقب الخمسة العظام ” لدورهم في تأسيس فرقة المسرح العربي.

حصلت الفنانة “مريم الصالح” على العديد من الجوائز و مناسبات التكريم إلا أن أهم ما حصلت عليه على الإطلاق هو حب الشعب الكويتي لها وتقديره لفنها مما جعلها تذرف الدموع حين وجدت جمهورها ينتظرها بالورود عند عودتها من رحلتها العلاجية بالولايات المتحدة الأمريكية .

 

مريم الصالح بعد شفائها من مرض السرطان
مريم الصالح بعد شفائها من مرض السرطان

جوائز وتكريم أستحقته مريم الصالح

 

وحصلت مريم الصالح على العديد من الجوائز و التكريمات منها درع رائد مسرح من «فرقة المسرح العربي» في الاحتفال «بيوم المسرح العربي لتكريم الفنان المسرحي من دولة الكويت عام 1977 ،وجائزة فضية عن دورها في مسرحية “العاقل يقول أنا «لفرقة المسرح الشعبي» في الاحتفال «بيوم المسرح العربي لتكريم الفنان المسرحي» 1980 ،و تكريم من «الاتحاد الكويتي للمسارح الأهلية »1994 م ،و تكريم من «فرقة المسرح الشعبي» بمناسبة مرور أربعين عامًا على تأسيس الفرقة1996  م، و تكريم مجلس التعاون الخليجي في  «مهرجان المسرح ‏الخليجي الخامس» مع الفنانة مريم الغضبان، و تكريم من «مهرجان المميزون في رمضان» عام 2011م .

ستظل “مريم الصالح” علامة مميزة في تاريخ الحياة الفنّية الكويتية بل و العربية كمثالٍ لجيل من الرائدات ارتضى أن يشق طريق لم يمهد من قبل ،وأن يضع الملامح الأولى و اللمسات المبكرة لأجيال قادمة ستجد من أضاء لهم طريق الفن و الثقافة و المتعة .

أضف تعليق