ينخرط كثيرون منذ بواكير أعمارهم في المجالات الفنية المختلف ،إلا أن ذلك ليس ضامناً لهم أن يكونوا من العلامات البارزة صاحبة الأثر في مسيرة هذا الفن أو ذاك ،وكذلك يبرز كثيرون ويتميزون بين أقرانهم سواء في ذات الجيل أو على مدى أجيال متعاقبة إلا أن ذلك لا يمنحهم لقب “الرواد” إذا لم يؤثر هؤلاء في تاريخ الفن ومستقبله في أوطانهم .
“الرائد” الحقيقي هو ذلك الشخص الذي صبغ الفنّ بلونه وترك بصمته على المئات ممن تتلمذوا على يديه وأرسى قواعد العمل وانطلق بقاطرة الإبداع مخترقاً بها أجواء البدايات المجهولة فقطع المساحات المدوية في أزمنة قصيرة .
إذا أردت أن تُعرّف “الرائد” الحقيقي في مجال الفنون والآداب و الموسيقى في الكويت فلك أن تذكر اسماً واحداً ولتقرأ سيرة واحدة فهي كفيلة أن تلخص لك كيف تكون حياة الروّاد وكيف تكون إسهاماتهم .
إن هذا الاسم وهذه السيرة ليست سوى للكويتي الراحل ” حمد عيسى جاسم الرجيب ” هذا العَلَم الذي أسس للفنّ في الكويت جنباً إلى جنبٍ مع تأسيسه لمؤسسات الرعاية الاجتماعية و الأعراف الدبلوماسية .
جذور و نشأة حمد عيسى الرجيب
ولد الرائد الكويتي الراحل حمد عيسى الرجيب في عام 1922 م ، وهو ينتمي لعائلة “الرجيب” إحدى العوائل القديمة في الكويت والتي كان لرجالها فضل سبق في نهضة وتطور الدولة .
تلقى “الرجيب” تعليمه الأساسي بالمدرسة المباركية حيث درس مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين الإسلامي ومسك الدفاتر، وفي نهايات الثلاثينات من القرن الماضي كان الطالب حمد عيسى الرجيب قد أظهر تفوقاً دراسياً ملحوظاً مع نضج في الشخصية وقدرة على القيادة مما جعل “عبد الله الصالح ” سكرتير مجلس المعارف حينئذٍ يطلبه للتدريس في المدرسة الشرقية مع مواصلة دراسته في المدرسة المباركية !
ظل الرجيب يمارس الدورين معاً دور الطالب و المعلم بلا كللٍ ولا مللٍ حتى أنهى الصّف الثالث الثانويّ ليُعين مدرساً رسمياً من قبل مجلس المعارف في مدرسة «الاحمدية»، وهناك درّس مواد متنوعة، كالجغرافيا والتاريخ والحساب والأناشيد والتربية الدينية، ثم أصبح بعد ذلك وكيلا لها.
حمد عيسى الرجيب والحقبة القاهرية
ساعدت مواهب حمد عيسى الرجيب ونبوغه المبكر في أن يرشّح من قِبل دولة الكويت ليكون ضمن أكبر بعثاتها التعليمية حينئذٍ إلى مصر وذلك مع 60 أخرين من خيرة شباب البلاد في عام 1945 .
كان من المقرر لهذه البعثة أن يدرس طلابها في مدارس المعلمين المصرية لسدّ العجز في أعداد المدرسين في المدارس الكويتية إلا أن شغف “الرجيب” بالفن و المسرح خاصّة وقدرته على أداء أكثر من مهمة جعلته ينتسب إلى معهد التمثيل في ذات الوقت ،فكان يدرس مع أقرانه في مدرسة المعلمين التربية وعلم النفس صباحاً، ويذهب إلى معهد التمثيل مساءًا فيدرس فنون المسرح على يد أشهر المدرسين مثل زكي طليمات ويوسف وهبي، وقد إحتكّ في تلك الفترة مع عدد من الفرق المسرحية مثل فرقة الريحاني وفرقة علي الكسار.
لم يقتصر دور الرجيب خلال فترة الدراسة بالقاهرة على دور الطالب المتلقي بل عَمِد إلى جمع الطلبة الكويتيين في القاهرة حول نافذة إعلامية تنقل لهم أخبار الوطن وتصقل معارفهم فشارك الشاعر الراحل أحمد مشاري العدواني إصدار مجلة ثقافية اسمها «البعثة» عام 1949م.
ساهم نشاط حمد الرجيب في هذه الفترة في إختياره ليكون نائباً للبيت الكويتي وهي المؤسسة الجامعة لأبناء الكويت المغتربين بالقاهرة ثم تولى لاحقاً الإشراف الكامل عليها .
المؤسس حمد الرجيب
بعد إنتهاء سنوات البعثة الأربع عاد حمد الرجيب إلى الكويت ليتم تعينه مدرساً في المدرسة الأحمدية ثم ناظرا لمدرسة الصباح، حيث قام في عام 1951 م بتأسيس نادي المعلمين ،ثم قام بتأسيس دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل ، وهي الادارة التي أنشأت الجمعيات التعاونية ورعاية الشباب، ومركز الفنون الشعبية فأصبح أول مدير لها، و في عام 1962 عين وكيلاً لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من ثم وزيرا لها في عام 1981م.
حمد الرجيب و عشق المسرح
ترجع علاقة حمد الرجيب بالفن المسرحي إلى بدايات حياته حيث ظهر لأول مرة على خشبة المسرح المدرسيّ مُمثلاً في مسرحية ’’اسلام عمر ‘‘ عام 1939 م حينما قام بأداء دورين هما “فاطمة بنت الخطاب ” و “سراقة بن مالك ” .
في سنوات بعثته للقاهرة لم تنقطع علاقة الرجيب بالمسرح فكان يدرس من ناحية في معهد التمثيل على يد أساطير المسرح في ذلك الوقت مع الحرص على متابعة الفرق المصرية المشهورة عن قرب، وكتابة مقالات عن أهمية دور المسرح في بناء المجتمع وذلك في مجلة “البعثة” .
وإستطاع رغم إنشغاله بالدراسة في ذلك الوقت أن يخرج عدداً من المسرحيات سواء في الكويت أو في البيت الكويتي في القاهرة ، فقدم في الفترة من (1943-1953) أكثر من إثنين و عشرين مسرحية منها : الميت الحي، أم عنبر، من تراث الابوة، المروءة المقنعة، وفاء، الى يثرب، البخيل، معركة اليرموك، اضرار التبغ، طبيب رغما عنه، غزوة بدر الكبرى، مهزلة في مهزلة، مجنون ليلى، عروس الزنوج، عدو الشعب، وامعتصماه، ابن الراعي، الطاحونة، مقالب سكابان، سر الحاكم بأمر الله، سر الجريمة.
كما كتب نصوصاً مسرحية تعتبر من كلاسيكيات المسرح الكويتي وبواكير أعماله المكتوبة بالفصحى مثل مسرحيتي “من الجاني” و”خروف نيام نيام ” (1947 ـ 1949) كما قدم أيضاً عدداً من النصوص العالمية مثل رواية «أضرار التبغ» للكاتب الروسي تشيكوف.
إلا أن الدور الذي لا يقل أهمية لحمد الرجيب في تأسيس المسرح الكويتي كان ما قام به بصفته التنفيذية كمسئول في البلاد وليس ككاتب ومخرج مسرحي فوضع الرجيب المسرح على قائمة إهتماماته منذ أن تولى منصب مدير دائرة الشؤون الإجتماعية والعمل ،وحرص على إنشاء مسرح عصري بقواعد ذلك الوقت والارتقاء باللبنات الموجودة فشكّل اللجنة الدائمة لرعاية الفنون الأهلية ومؤسسة المسرح والفنون، ثم قام بإستقدام زكي طليمات من مصر لدراسة الوضع المسرحي في الكويت، وبعد أن قيم الوضع أنشئت أربعة مسارح وهي المسرح العربي ومسرح الخليج والمسرح الشعبي والمسرح الكويتي، وأسس بعد ذلك مركز للدراسات المسرحية أصبح فيما بعد معهد الفنون المسرحية.
دور حمد الرجيب في حفظ التراث الكويتي
اهتم حمد الرجيب بالتراث الغنائي الكويتي بصورة خاصّة والخليجي بشكل عام فعمل على جمعه وتوثيقه، فأسس مركز حفظ التراث لجمع أغاني البحّارة وقصائد الشعر النبطي ،كما أنشأ مركز الفنون الشعبية عام 1956 حيث سجل أغاني البحر والافراح وسائر المناسبات، إلا إنه كان أيضاً من رواد تطوير الأغنية الكويتية فقدم في بداية الستينات من القرن الماضي ألحانه الخاصة فلحنَّ لصديقه الشاعر أحمد العدواني أغنية «فرحة العودة» ،كما لحن الرجيب لشعراء أخرين وغنى ألحانه عدد من أشهر المطربين مثل أغنية «جودي لا تهجريني»، كلمات الشاعر منصور الخرقاوي وغناء غريد الشاطئ ، كذلك غنى له عوض دوخي، وصالح الحريبي، وعبدالحميد السيد والمجموعة التي قدمت من ألحانه أغنية «دارنا يا قبايل».
كما حرصت بعض الأصوات العربية الأكثر شهرة في ذلك الوقت أن تتغنى بألحان حمد الرجيب فغنت “نجاح سلّام ” من ألحانه «أداري والهوى نمام»، وغنت “صباح ” أغنيتين هما «يا عاذلين الحبايب »و« يا عاشقين السهر» كما غنت له نجاة الصغيرة «يا ساحل الفنطاس»، وغنى له من المطربين “عبد الحليم حافظ” أغنية «يا فرحة السمّار» وسجلت إذاعة القاهرة له لحن أغنية “البوشية”.
ويوجد للرجيب مقطوعات موسيقية حديثة مستمدة من التراث، منها: عودة، تحية، رقصة الصبايا كما ساهم في إكتشاف بعض الوجوه الفنية العربية .
محمد الرجيب مسئولاً فوق العادة
منذ عودته من بعثة القاهرة في أوائل الخمسينات من القرن الماضي تولّى حمد الرجيب العديد من المسئوليات التنفيذية التي ساهمت بشكل واضح في ارتقاء الفن و التأسيس لبيئة إبداعية داخل الكويت وفي عام 1966 أختير ليكون سفيرا للكويت في مصر لمدة عشرة سنوات، كما كان مندوبا دائما للكويت في جامعة الدول العربية، وبعدها أصبح سفيرا للمغرب لمدة أربعة سنوات .
في 26 مايو 1980 تم إختياره ليكون وزيرا للإسكان في الحكومة العاشرة للكويت التي شكّلت من قبل رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح كبديل للوزير عبد الله إبراهيم المفرج، وفي 4 مارس 1981 تم إختياره كوزير للإسكان ووزير للشؤون الإجتماعية والعمل في الحكومة الحادية عشر وذلك حتى وافته المنية 25 أيار/مايو 1998 في لندن ثم نقل ليدفن في وطنه وعشقه الكويت لتنطفئ شعلة لطالما أضاءت بإبداعها الشامل أفاقاً معتمة و غرست في الأرض اليباب ثماراً يانعة .